ومع ذلك كله فإن علينا ألا نزكي أنفسنا، ولا نتمدح بأعمالنا؛ بل علينا أن نحتقر الأعمال التي عملناها، ولو بلغت ما بلغت. الله سبحانه وتعالى قد نهانا عن التزكية للأنفس، قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
وقال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
ومعنى التزكية كون الإنسان يمدح نفسه.
يمدح نفسه بأنه من الذين أطاعوا، ومن الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا، فإذا نصح عن بعض الخلل وبعض التقصير أخذ يمدح نفسه، وأخذ يذكر أعمالا يعملها، ويقول: أنا خير من فلان، وأنا خير من هؤلاء وأنا خير من الذين لا يصلون ولا يزكون ولا ولا؛ فنقول له: لا تمدح نفسك فربك أعلم بمن اهتدى. يقول الله: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
.
بل إن عليك أن تحتقر أعمالك، ولو بلغت ما بلغت. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
؛ وذلك لأن نعم الله تعالى كثيرة على عباده، ولو أخذهم بعدم شكرها لقصرت أعمالهم عن شكر أصغر نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى عليهم.
ورد في بعض الآثار: أنه يؤتى برجل قد عمل من الحسنات أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي، ألا أدخلها بهذه الأعمال، فيقول الله: حاسبوا عبدي على نعمي. فيقول الله لنعمة البصر: خذي حقك من أعماله، ولنعمة السمع: خذي حقك من أعماله، لنعمة العقل: خذي حقك؛ فتأخذ أعماله ولا يبقى له شيء فيقول الله: أدخلوه النار. فيقول: لا يا ربي، بل أدخلني الجنة برحمتك ؛ فعلم أن أعمالنا وإن كثرت فإنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله سبحانه، وبالنسبة إلى حق الله على عباده.
ورد أن الملائكة الذين خلقوا لعبادة الله، منهم من هو ساجد منذ أن خلقه الله إلى أن تقوم الساعة، ومنهم من هو راكع إلى أن تقوم الساعة. وإذا قامت القيامة وشاهدوا عظمة ربهم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. وذلك لأنهم يحتقرون أعمالهم، ولو بلغت ما بلغت.
إذا رأوا نعم الله، وإذا رأوا عظمة ربهم وجلاله وكبرياءه؛ عرفوا أنه أحق أن يعبد وأن يحمد ويشكر وأن يثنى عليه، وأن يطاع ولا يعصى، وأن يعمل له كل الأعمال الصالحة؛ لذلك لا يقول الإنسان: أنا خير من فلان، أو أنا مطيع، أو أنا أصلي وأصوم أو أنا أقرأ وأذكر الله -فإن في هذا تزكية وإنما يحمد ربه ويقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
ويقول: إننا لو عملنا ما عملنا فإن أعمالنا قليلة بالنسبة إلى ما يستحقه ربنا تعالى.
كان بعض السلف قد بلغ منه الوله والتعبد مبلغا كبيرا وأنشد يوما فقال:
سـبحان مـن لو سجدنا بالعيون له | على حمى الشوك والمحمى من الإبر |
لـم نبلـغ العشر من معشار نعمته | ولا العشـير ولا عشـرا من العشر |